لماذا يفشل الأميركيون في اختراق بيئة المقاومة؟

مرصد طه الأخباري، بعد حرب تموز من العام 2006، وبناءً على تحليل مضمون الصحافة العالمية ومقابلات مع ديبلوماسيين وصحافيين، نشرت جامعة هارفرد دراسة إعلامية تجيب فيها عن السؤال التالي: «كيف يمكن لفئة منغلقة كحزب الله، السيطرة التامة على الرسائل اليومية للصحافة والدعاية». تنتهي الدراسة إلى أن حرب تموز «قدّمت نموذجاً جديداً للصراع في الشرق الأوسط بين إسرائيل ذات المجتمع المنفتح، وفئة ميليشياوية سرية وعقائدية».

وفي هذا الإطار يقول الخبير العسكري الأميركي ستيف فونداركو: «جاء اتحاد السياسة الثورية وتكنولوجيا الاتصال الحديث ليضع تعريفاً جديداً لطبيعة الحرب غير المتكافئة كما شهدنا في حرب لبنان عام 2006». الواقع أن عدم التكافؤ واللاتناسبية قد حلّت في المرتبة الأولى من أدوات الدعاية للمقاومة، إذ وجه المراسلون العرب والغربيون انتقادات متكررة للعدو الإسرائيلي على رد الفعل غير المتناسب مع هجوم حزب الله، الأمر الذي أظهر مظلوميته وحقه بالدفاع عن نفسه، فاكتسب حزب الله قوة إلى قدرته العسكرية وهي قوة الحق.

فشل الإعلام الأميركي والإعلام العربي التابع له في التأثير بمجريات الحرب عبر التأطير الإعلامي لصالح إسرائيل، والذي يظهر حزب الله بصورة المعتدي والإرهابي. في حين استطاع حزب الله دحضَ ادعاءات العدو وأكاذيبه لرفع معنويات الجبهة الداخلية، وتبيان حقيقة الأمر للرأي العام العالمي. وعلاوة على ذلك، نجح في خلق حالة من الرعب لدى المستوطنين؛ بأنهم في متناول نيران المقاومة، مستخدماً ما يطلَق عليه الدعاية «البيضاء»، أي الدعاية المعروفة المصدر وذات الوقائع الواضحة والمعلومات الصحيحة بحسب التعريف الاصطلاحي.

وهي الاستراتيجية الدعائية نفسها التي اعتمدها الراحل جمال عبد الناصر في حرب السويس عام 1956. إذ اعترفت صحيفة «ديلي ميل» حينها بأن «مصر كسبت المعارك التي خاضتها بفضل رئيسها من جهة، وبفضل حجتها القوية من جهة ثانية. وكان الفضل الأكبر في هذا النجاح لجهازها الإعلامي الذي كان يؤدي لبلاده خدمة جليلة».

انتهت حرب تموز وبدأت الولايات المتحدة بتمويل مشاريع شيطنة حزب الله الإعلامية والدعائية، ومن حينها «عند كل حادث يحصل في لبنان، صغيراً كان أو كبيراً، تنبري جوقة إعلامية ‏وسياسية معروفة لتوجيه الاتهامات والسباب والادعاءات إلى حزب الله وإلى ‏المقاومة في لبنان. وتستخدم لذلك شبكات التواصل الاجتماعي، وكل وسائل الإعلام المحلية ‏والكثير من وسائل الإعلام العربية المتواطئة في هذا الأمر»، يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. ويضيف:

«أثبتت هذه الحملة أنه إذا ‏كان المقصود هو المس بوعي جمهور المقاومة، بهذه البيئة، هذا بحمد ‏الله عز وجل أعطى نتائج عكسية، وأثبتت الأيام الماضية أن هذا الجمهور، من خلال ‏ما عبر عنه في وسائل الإعلام وفي الشارع وفي شبكات التواصل الاجتماعي، أنه ‏يزداد تمسكاً بالمقاومة وشعوراً بمظلوميتها واستعداداً للدفاع عنها والحضور إلى ‏جانبها».

مشاريع الشيطنة ومحاولات إسقاط حزب الله بلغت ذروتها في استحقاق الانتخابات النيابية، حيث تركزت الحملات الدعائية لحلفاء الولايات المتحدة كافة وناشطي المجتمع المدني على استهداف الحزب في جمهوره وسلاحه، أطلق عليها السيد نصر الله «حرب تموز سياسية».

مرة أخرى خسر الأميركيون حربهم الدعائية لشيطنة حزب الله داخل بيئته. فنسبة التصويت للمقاومة كانت معركة منفصلة بحد ذاتها بغض النظر عن النتائج، وتخطت نسبة الاقتراع لجمهور المقاومة النسب التي حصل عليها في الانتخابات السابقة، ما يؤكد المشروعية المستمرة والمتنامية لهذا الحزب؛ فالنتائج جاءت عكسية على شكل تجديد الولاء والتفاف الجمهور الذي شعر بمظلوميتها فانتفض للدفاع عنها. والسؤال لماذا يفشل الأميركيون دائماً في اختراق بيئة المقاومة؟ وكيف تعمل الدعاية البيضاء الداخلية على مواجهة الدعاية السوداء الخارجية؟

أولاً: الدعاية البيضاء والدعاية السوداء:

قبل أي تحليل سنعمد إلى تطبيق نموذج لاسويل في الرسائل الإعلامية لتفنيد الدعايتين (البيضاء والسوداء): «من يقول ماذا لمن وبأية وسيلة».

  • الدعاية البيضاء: القائل في الدعاية البيضاء هو قائد المقاومة، متوجهاً بمعطيات واضحة ومعروفة لأهل المقاومة، إمّا عايشوها وإمّا اختبروها بأنفسهم، فأغلب البيوت في البيئة منخرطة في العمل العسكري أو الثقافي أو التبليغي للحزب من خلال أحد أفرادها من الدائرة القريبة أو البعيدة. أمّا الوسيلة فهي الخطابات المباشرة والواضحة.

  • الدعاية السوداء: أمّا في الدعاية السوداء، فالقائل هو عدة مصادر معروفة الانتماء لجهة لم يرَها أهل المقاومة يوماً إلا عدوّاً، أو مصادر مجهولة بالنسبة لديهم وليس لها مصداقية عندهم، تقول أخباراً ملتبسة، وحججاً غير منطقية، وتحتمل التأويل، عن المقاومة، لأهل المقاومة. عبر الخطابات التي غالباً ما تكون افتراضية.

لدى تحليل الدعايتين يتضح لدينا … أن:

• المرسِل والمرسَل إليه في بيئة المقاومة هم واحد، وعليه فإن «أهل مكة أدرى بشعابها» وأي رسالة خارجية كاذبة سيتم اكتشافها مباشرة، بل إن أي رسالة سيتمّ بثّها، لا تلتقي مع المزاج الشعبي، سيتم وضعها تلقائياً في خانة نظرية المؤامرة. وهي نظرية وإن كانت شعبوية إلا أنها تحصّن المجتمعات من الاختراق.

• في سيكولوجيا الجماهير، يفضّل الناس المعطيات الواضحة ويعتنقون الأفكار التي عايشوها، أمّا الأخبار الملتبسة والتي تحتمل التأويل، فإن الناس يتجنبونها لصعوبة وضعها في الخانات التي اعتادوا عليها.

• الواقع أن البيئات لم تعد تنطلي عليها الحجج غير المنطقية. وهو حال المجتمع اللبناني بأغلب أطيافه بشكل عام.

• تخرج الرسائل التي يتمّ بثّها من قبل الدعاية السوداء إمّا من الفضاء الإعلامي المتلفز وإمّا في الفضاء الإلكتروني، ولا تتعدّى العالم الافتراضي لبيئة المقاومة، بينما تخرج رسائل الدعاية البيضاء من العالم الواقعي الذي أثبتته إنجازات المقاومة وأفعالها إلى العالم الواقعي نفسُه.

• جمهور المقاومة أصبح حاضراً على مواقع التواصل بكل أطيافه، من فاعلين سياسيين إلى عسكريين (يحضرون بصفتهم من البيئة) إلى ناشطين وحتى المبلغين. وهؤلاء عندما يتلقون الرسائل الكاذبة والمضللة عن بيئتهم سيعمدون إلى دعاية مضادة بشكل تلقائي، لشعورهم بأنهم مستهدفون شخصيّاً.

• الانفتاح على مواقع التواصل أخرج التجارب من الدائرة الضيقة للناس داخل البيئة والأقرب إلى النواة، إلى الدوائر الأوسع. فالملاحظ أنه ثمّة تجمعات افتراضية تحصل على مواقع التواصل للبيئات، حيث يقوم الناس من نفس البيئة بإنتاج بيئة افتراضية لها نفس خصائص العقل الجمعي العام، بل هي أشدّ تواصلاً، لأنها تقع جميعاً في دائرة واحدة.

ثانياً: جاذبية حزب الله

الواقع أن صناعة الأفكار تتأثر بالفعل، بل الفعل هو الذي يقود إلى ترسيخ الأفكار، والمقاومة قد صنعت الأفكار في عقول الناس ورسّختها من خلال أفعالها؛ بدءاً من «عناقيد الغضب» عام 1996 عندما صمدت وفرضت شروطها، مروراً بتحرير الجنوب عام 2000 وصولاً إلى انتصار تموز عام 2006، وليس انتهاءً بالانتصار على التكفيريين على الجبهة السورية عام 2017. كل هذه الانتصارات، بالإضافة إلى تحوّل حزب الله إلى فاعل إقليمي في المنطقة، قد تحوّلت إلى أفكار في عقول الناس، وهذا هو العالم الحقيقي. لقد تحوّلت الفكرة إلى عقيدة بقوّة الفعل. والقوة تجذب الناس، إمّا بالإعجاب وإمّا بالخوف، كما أنّ لدى القوة والقدرة جاذبية ساحرة تشلّ كلّ ملكات الجمهور النقدية. يمكن القول إن أغلبية القاعدة الشعبية لحزب الله، والتي كانت قد عانت في الماضي من الاستضعاف في بيئتها والظلم والإهمال من السلطات السياسية المتعاقبة، وجدت أخيراً لنفسها قوة وازنة لن تتخلى عنها وستفعل أي شيء كي تزيدها قوة.

ثالثاً: جاذبية القائد

«ما إن يتجمّع جمهور من البشر، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سلطة زعيم ما»، يقول غوستاف لو بون في كتابه «سيكولوجيا الجماهير».

أسهب لو بون في الحديث عن القادة السطحيين والمجانين في التاريخ، وكيف يدغدغون الغرائز الوضيعة للجماهير، بالتالي فإن النفوذ الذي يمارسونه على الناس يظلّ دائماً مؤقتاً وعابراً. أمّا المقتنعون الكبار بمبادئهم، والذين استطاعوا التوصل إلى تحريك روح الجماهير وحماستها، من أمثال بطرس الناسك وقادة الثورة الفرنسية وغيرهم، فهم لم يسحروا الجماهير ويبهروها إلا بعد أن كانوا هم قد سُحِروا بعقيدة ما أو إيمان ما. وعندئذٍ استطاعوا أن يثيروا في النفوس تلك القوة الهائلة التي تُدعى الإيمان. ثم ذكر لو بون أن هؤلاء نادرون جداً إلى حدّ أنه يمكن تعدادهم على مدار التاريخ. وهو الحال مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.

الواقع أن السيد نصر الله استطاع أن يزوّد جماهيره، وحتى أعداءه، بالإيمان بقوته، قوة الحقّ بأرضه التي يمتلكها أولاً، وقوّته العسكرية ثانياً، وإذا ما تزوّد الجمهور بالإيمان تضاعفت قوّته عشرات المرات، وفي ما يخص الأعداء، فإنها ستكون حرباً نفسية تضعف قوتهم عشرات المرات.

رابعاً: صحافة المواطن والانفتاح على مواقع التواصل

يستفيد حزب الله من التطور المستمر لوسائل الاتصال وتكنولوجيا التواصل، التي لم تعد محصورة بقمر اصطناعي هنا أو شبكة إنترنت هناك، على الرغم من كل القيود التي يفرضها «فايسبوك» وغيره من المواقع، وعلى الرغم من أنه غير حاضر رسمياً على هذه المنصات. إلا أن الاستخدام الشعبي لها جعله حاضراً بقوة هناك، ويمكن القول إنه قد شكل جيشاً إلكترونياً بشكل تلقائي وغير مدبّر، للدفاع عن نفسه لدى كل حملة إعلامية، والملاحظ أن جمهور المقاومة على مواقع التواصل منيع إلى درجة أنه يمتلك الحسّ الفكاهي في أسلوبه في الدعاية المضادة، وهو لا يفنّد ويحاجج فقط، بل يلجأ إلى التهكم وتسليط الضوء على ضآلة طروحات الرسائل المعادية بأسلوب فكاهي غالباً ما يكون بعيداً من الانفعال، وهذا أسلوب من يشعر بالقوة النفسية، وقوة طروحاته.

ثمّة متغيرات ظاهرية في انفتاح جمهور حزب الله على المرونة النفسية والتحول نحو التفكير الليبرالي الذي يعزز الفردانية وحريات التعبير وغيرها من الحريات بفعل التغيرات الاتصالية التي فرضتها التقنية. ربما يراهن المعنيون من الأميركيين على هذه التغيرات للوصول إلى تغير اجتماعي داخل بيئة حزب الله قادر على إضعاف سلطة العقائد من خلال بثّ أفكار جديدة قوية لناحية التوجهات الفردية، مراهنين على إغراء الأفكار الليبرالية وجاذبيتها، والتي أسست لما يطلقون عليه في دعاياتهم وأفلامهم «الحلم الأميركي» الذي يغرون به شعوبهم والقائم على فكرة واحدة «الحقّ والحقيقة هو ما أجد فيه مصلحتي الشخصية». في حين يؤمن جمهور المقاومة بأنّ «أصل وجوده وبقائه هو في مصلحة الجماعة العامة»، وهو مبدأ قائم على التضحية، والتضحية في جوهرها هي قيمة إنسانية تملك قوة لا تقهر.

زينب عقيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى