الانهيار الأميركي من الداخل: ثقافة القتل

مرصد طه الأخباري، يعاني المجتمع الأميركي من انقسامات حادة عمودية وأفقية في آن واحد. الانقسام الأفقي محدد بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد وبعامل الدخل. لكن الأخطر يكمن في الانقسامات العمودية. صحيح أن قوانين الدولة الأميركية تقوم على أساس علمانية الدولة وبناء قومية وطنية جديدة لمجموع الشعوب التي تعيش فيها. إلا أنه اتضح وبعد 350 عاماً من نشأة أميركا أنها لم تكن كافية لتجمع الأميركيين تحت سقف وطن واحد. وحتى اليوم، ما زالت التجمعات السكانية فيها تقوم على أساس جنسية أو قومية محددة، وتعد العامل الأساسي المحدد في توزيع الأحياء السكنية في البلاد، وأساسا في العلاقات الإنسانية المبنية على العرق والإثنية والدين. وهذا العامل سيكون عاملاً هاماً في نهاية هذه الدولة كما نعرفها.

ملفتة هي التجمعات الكبيرة من الأميركيين ذوي الأصول الصينية والإيطالية واليونانية والروسية والأوكرانية والعربية في أحياء سكنية تُعرّف بحسب قاطنيها. وما يلفت في هؤلاء أنهم حافظوا على لغتهم ومناسباتهم واحتفالياتهم وحتى نوعية طعامهم، عبر سنين طويلة. ثم إن هناك الأفارقة الأميركيين وحتى البيض من الأصل الأنغلوساكسوني والبروتستانتي، المعروفين باسم “WASP” وهي مختصر “White Anglo-Saxon Protestants”، وللمفارقة اختصارها يعني “الدبابير”. تعيش هذه المجموعات بالشكل العام في مناطق معزولة بعضها عن بعض، ويتجمعون في أحياء تعرف بحسب جنسياتهم وأصولهم التي ينتمون إليها ويفضلون التزاوج فيما بينهم، هناك استثناءات ولكنها محدودة بالمدن الكبرى ومجتمع الفنانين.

ومع أنه، على سبيل المثال، ينتمي الإسكتلنديون والإنكليز لنفس الفئة، لكنهم نقلوا معهم من بلادهم الأصلية إلى “البلاد المقدسة” الجديدة الكراهية والعنصرية ضد بعضهم البعض.

رأى الرواد الأوائل من المسيحيين الأوروبيين المعمدانيين أو البروتستانتيين في أمريكا “أرض الميعاد”. وأغلب انتشار هؤلاء كان في أمريكا الشمالية. وقد نقلوا معهم الصراع التاريخي العميق مع الإسبان والبرتغاليين الكاثوليك الذين استوطنوا أمريكا الجنوبية. وانتقلت معهم الكراهية المتولدة عن الصراع السياسي والاستعماري والإثني، الذي قارب مدة الألف سنة في اوروبا، إلى المستعمرات وخاصة في الأميركتين، حيث بقي المستعمر يحكم حاملاً أحقاده القديمة. ثم إن الشعور الأنجلوسكسوني بالتفوق على باقي أوروبا، وخاصة ما بين البريطانيين كان أشد فظاعة، حيث وصلوا إلى مستوى مختلف من العصبية استطاعوا عبرها تجاوز الشعور بالذنب حين قتلوا من ليسوا منهم بدم بارد.

لا أحد ينكر قوة أميركا وعظمة أساطيلها، ولكن الجيش القوي والأساطيل لم تمنع انهيار امبراطوريات ودول عظمى ما إن بدأ السوس بالنخر فيها من الداخل. فالانقسامات العمودية المحددة بحسب الإثنية أو العرق أو الدين أو المذهب أحياناً، هي سوس قديم في أمريكا ومقتل سيصيبها في نهاية الأمر. وما مشاهد مجموعات “كيو آنون” التي هاجمت الكونغرس اعتراضاً على إعلان فوز جو بايدن برئاسة أميركا بعد خسارة دونالد ترامب، إلا دليل على صعود تيارات عنصرية جديدة في الولايات المتحدة.

وصل عمر الاستعمار في أمريكا الى 420 عامًا تقريباً. جلب معه حملاً ثقيلاً من الكراهية والعنصرية، تجذر مع استخدام الشركات المقاولة ضباطاً من المرتزقة الإنكليز لحماية أمنها والذين أصبحوا سياسيين فيها فيما بعد. واستخدمت الأعراق الأخرى، وخاصة الأفارقة، كعبيد في زراعة حقول القطن وخدمة البيوت، وما تزال إلى اليوم تنظر إليهم الولايات الأميركية الجنوبية نظرة دونية قاسية وبشعة. واستخدم الصينيون وغيرهم من العرق الأصفر في مدّ السكك الحديدية بأجر بخس، وأحياناً بالسخرة مقابل نقلهم إلى أميركا.

حتى في انضمام كاليفورنيا لتصبح إحدى الولايات الأميركية فصل من فصول العنصرية الموصوفة، حيث تم استهداف السكان من الأصول الأميركية، وانتزاع أراضيهم من أجل تمرير سكة الحديد تارة ومن أجل البحث عن الذهب تارة أخرى. وعندما نقرأ تاريخ أمريكا، علينا أن نعي حجم التزوير الذي طال تاريخ انضمام الولايات إليها، ومنها تكساس وكاليفورنيا، واللتان ضمتا عنوة بعد الحرب مع المكسيك. وانتزع المنتصر كاليفورنيا انتزاعاً. وهنا تحضر أسطورة زورو، وبحسب ما نشر عنه، فـإن زورو أو “واكين موريتا” كان رجلاً حقيقياً، وهو فلاح مكسيكي بسيط، بحث عن الذهب وأصبح رجلا غنيا. إبان الحرب الأميركية المكسيكية 1946- 1848 دخل الجيش الأميركي بيته وأجبره على تسليم ذهبه، واغتصب زوجته وقتلها أمام عينيه، ولاحقاً قتلوا أخاه، فثار موريتا على الأميركيين وأصبح ثائراً يهاجم قوافلهم. فحياته وحياة الكاليفورنيين تغيرت بعد ضم الأميركيين للولاية المكسيكية، الذين أدخلوا السكان الأصليين في سلسلة من الطغيان والنزاعات العنصرية مع الأوروبيين والأميركيين، الذين استقدمتهم الحكومة الأميركية للاستيطان في كاليفورنيا بعد اكتشاف الذهب فيها.

في العام 1850 باتت كاليفورنيا ولاية أميركية. ما يلفت أنه خلال عرض الفيلم “زورو الأسطورة” في العام 2005، والذي يعد الجزء الثاني من فيلم “قناع زورو- 1999″، كان هناك مشهد تدخل فيه مجموعة من الميليشيات أرض فلاح اسمه واكين لتسلب صك ملكية أرضه، لأن سكة القطار ستمر بها، فقاموا بقتله وتهجير زوجته وابنه. وعندما يطلب الأميركي “الميليشياوي”، الذي يعمل لصالح مقاول فرنسي مستعمر صك ملكية أرضه، يقول له وهو يضع السكين على رقبة زوجته: “ولسوف يطردهم الرب من أمامك، ولسوف تستولي على أرضهم”. وهو نص تربى عليه “الدبابير”، وموجود في إنجيل الملك جيمس في سفر يوشع، المترجم من اللاتينية إلى الإنكليزية. ويتابع قائلاً للفلاح “وليس أمامك سوى الخلاص أو اللعنة، وكلاهما لن يتحققا إلا بموتك”.

هذه هي العقلية التي تربى عليها الأميركيون ومن قبلهم الأنجلوساكسون الذين بنوا الإمبراطورية البريطانية. وحتى أن جين فوندا، وهي ممثلة أميركية معروفة عالمياً بمواقفها ضد الحرب في فيتنام، لفتت إلى دور أفلام الكاوبوي الأميركية في تعزيز العنصرية لدى الأميركيين.

المعدل العالمي للجريمة المرتفعة في العالم قيس بـ 7.6 لكل 100000 شخص، وهو الأعلى في فنزويلا. ولكن وبحسب مقال نشرته الـ CNN مؤخراً عن تقرير رسمي لمكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي، فإن معدل جرائم القتل في العام 2020 وصل إلى ما نسبته 6.5 لكل ألف شخص في أميركا. وذكر التقرير أن جرائم القتل بدأت بالتصاعد في حزيران/ يوليو العام الماضي، وبقي عند هذا المعدل. بناء على ما سبق ليس غريباً أن تمثل امريكا إحدى الدول ذات نسب الجريمة الأعلى في العالم، وخاصة عندما نرى رجلاً أبيض يدخل مدرسة في حي يسكنه الأفارقة الأميركيون واللاتينيون ويبدأ بإطلاق النار. منهم من يقتل من أجل المتعة، ومنهم من يقتل بسبب الحقد، لأنه يعد إنجازات من هم ليسوا من لون جلدته سبباً في بؤسه وعدم نجاحه. إنهم مرضى الثقافة التي غرست في عقولهم بحق استعباد من ليس مثلهم ولقرون طويلة.

وبالتالي ليس مستغرباً أن يفتح الأميركيون النار على بعضهم البعض انتقاماً، وليس مستغرباً أن يقوم شاب مثل سلفادور رونالدو راموس بفتح النار في ابتدائية يوفالد تكساس في 25 ايار/ مايو الماضي، لأنه يستطيع أن يثأر لنفسه بحسب العقلية التي زرعتها برأسه تربيته الأميركية، وأنه قادر على الثأر لنفسه ضد التنمر الذي يخضعه إليه من حوله إذا ما استطاع اقتناء السلاح، ولو ممن هم أضعف منه، وهي ذات التربية التي عاشها أجداده.

خلال عملية بحث بسيطة يمكننا الاطلاع على آلاف الحوادث التي تنال الأطفال والعزل في شوارع الولايات المتحدة، لأن ثقافة قتل الضعفاء والاستهتار بحق الشعوب في الحياة والحرية على أرضهم، هي ثقافة معدية ستطال من استضعفوا من الشعوب على أرضها، والدليل انتشار عصابات القتل والسرقة العرقية الشرسة فيها. فأمريكا ستدفع الثمن في الداخل على تغطيتها قتل الصهاينة للفلسطينيين وسرقة أراضيهم باسم الدين، وثمن تغطية قتل وسرقة الأوروبيين لخيرات من استعمروهم في أفريقيا وآسيا باسم الدين، وثمن قتل الأميركيين الأصليين من أجل سرقة أرضهم وبلادهم وذهبهم وباسم الدين أيضاً.

المفارقات في هذه القضايا أن كلّاً من الجمهوريين والديمقراطيين يستغلون بعد كل حادثة دماء القتلى من أجل سن قوانين حرية شراء السلاح أو منعها، الديمقراطيون يريدون وقف العمل بالبند الثاني من الدستور الذي يكفل هذه الحرية، والجمهوريون يقفون ضده. وهذه القضية اليوم هي من أكبر الحملات التي يروج لها بايدن، لأنه سيكسب بها أصواتاً إذا ما نجح خلال الانتخابات النصفية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2023، والتي ستقرر مصير الديمقراطيين لست سنوات تليها. ولنفس الأسباب يقاتل الجمهوريون، ولكن الحقيقة الثابتة التي كتبت عنها “ناشونال ريفيو” تقول: “إن معظم علماء علم الاجتماع ـ في أمريكا ـ قد وجدوا أن قانون منع بيع الأسلحة الفردية، والذي كان جزءاً من قانون التشريع القضائي الذي دعمه الرئيس الأميركي جو بايدن عندما كان سيناتوراً، لم يكن بذي فائدة تذكر على معدل الجريمة في الولايات المتحدة، خلال زمن تطبيقه ما بين العامين 1994- 2004”. وهذا معناه أن المشكلة هي في العقلية الإجرامية الأميركية التي تمسك بالسلاح وليس فيه.

عبير بسّام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى