عندما صافحت نصر الله و كنا فتيانًا في الثانوية

مرصد طه الإخباري، عندما صافحت نصر الله و كنا فتيانًا في الثانوية
في مثل هذه الأيام التي نودع فيها الأمين العام لحزب الله، سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله، تعود بي الذكرى إلى العام 1997، عندما كنا فتيانًا في الثانوية، ذلك أن أنباء استشهاد نجل نصر الله، “السيّد هادي”، كانت حدثًا ملأ لبنان.
في تلك الأيام، ضج هذا الحدث بعد احتجاز الاحتلال لجثمان “السيّد هادي”، مع مجموعة من مقاومي حزب الله، من “القوات الخاصة”، ولم يتجاوز عمر “هادي” ثمانية عشر ربيعًا.
وأذكر تمامًا، بعد هذا الحدث، أن نصر الله في إحدى مقابلاته، ذكر أن الاحتلال حاول أن يلعب على وتر الأبوة، بأن يفرج عن جثمان “هادي”، منفردًا دون مجموعة المقاومين التي استشهدت والتي كان برفقتها، مقابل مطالب، إلا أن نصر الله رفض، فلا ميزة لولده عن أي مقاوم، حتى تمكن حزب الله، من تحرير جثامينهم بعملية تبادل في 26/6/1998.
كنت وأصدقائي، في مدرسة اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) نتحدث عن هذه التضحية التي قدمتها عائلة نصر الله، وكنت في خيالي، أتصور قلب هذا الأب المكلوم على ولده، إلا أنني وجدت رجلًا هادئًا ومتماسكًا، ذلك أنه في خطاب تأبين ولده، أذكر أنه تحدث عن قادة المقاومة اللبنانية والفلسطينية، الذين سبقوه ممن قدموا أبناءهم في مواجهة العدو الإسرائيلي، قائلًا في جملة ما زالت تصدح في أذني “أرضيت يا رب”.
كان في صفي الدراسي، تلميذ لبناني، والدته فلسطينية، اسمه أحمد عبيد، ذلك أن الأونروا أتاحت للبناني من أم فلسطينية أن يتعلم في الأونروا، وكان متحمسًا للذهاب لتعزية نصر الله، فقال أمامنا “شو رأيكم نروح نعزي نصر الله”، وقتها استغربت حتى الدهشة، فقلت كيف؟ وأين؟ كيف يمكن لمجموعة فتيان أن يلتقوا بنصر الله؟ وهو شخصية تلتقي بالزعماء، فضلًا أنه شخصية مستهدفة.
في ذلك الزمن، كان نصر الله، يلقي خطاباته في بعض الأحيان أمام الجمهور، في مختلف المناطق اللبنانية، ويبدو أن القيود الأمنية كانت أخف وطأة عما أصبحت عليه بعد عدوان تموز عام 2006، والذي حققت فيه المقاومة نصرًا على الاحتلال، يتم الاحتفاء به كل عام.
حدثنا صديقنا، أن العزاء مقام في منطقة “بئر العبد”، لم يأخذ التشاور وقتًا طويلًا، فقد كان نصر الله شخصية محببة إلينا جميعًا. توجهنا بعد انتهاء الدوام الدراسي من منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي أيدينا كتب الدراسة، سائرين خلف دليلنا أحمد الذي كان ابن منطقة الضاحية ويعرفها جيدًا، وقد تخلفت عن باص المدرسة الذي من المفترض أن يقلني إلى منزلي الواقع في منطقة رأس النبع وهي بعيدة عن الضاحية.
سرنا حتى وصلنا إلى خيمة، بنية اللون، كانت تتوافد إليها حشود شعبية، وقفنا في الصف، حتى وصلنا إلى الحراس، أخذوا من يدنا الكتب كما أذكر وفتشوها، وحجزوها قائلين تأخذوها بعد مغادرة العزاء، كما تم تفتيشنا بشكل عادي، ودخلنا إلى صف داخل الخيمة، شاهدت نصر الله كان يقف لوحده، يسبقه خمسة أشخاص جالسين على الكرسي، وكان يسلم على الناس بنفسه، انتابني شعور غريب، وتوترت، وأخذت في نفسي أتساءل، كيف أسلم عليه؟ هل أكتفي بالتسليم باليد، هل أقبل خديه، وما زلت أتساءل حتى وقفت أمامه، كان التعب باديًا عليه، ويتصبب جبينه عرقًا، ويبدو أنه منذ ساعات طويلة، يستقبل المعزين وقوفًا احترامًا للناس، ويسلم على كل شخص بنفسه، مددت يدي وسلمت عليه، فأخذ بيدي، لكن لا بد من شيء إضافي، فما كان مني في هذه اللحظة ويدي في يده، إلا أن قبلت جبينه، وغادرت، وبقيت هذه اللحظات مترسخة في ذاكرتي.
تذكرت هذه اللحظات، في يوم وداع نصر الله، والذي احتشدت فيه جموع المعزين في مشهد مهيب، ملأ شوارع بيروت من مختلف المناطق اللبنانية، ومن المخيمات الفلسطينية، لوداع شخصية التصقت بالجماهير.
شخصية نصر الله، بلا شك مؤثرة في تاريخنا العربي والفلسطيني تحديدًا، هي شخصية استثنائية ذات حضور طاغٍ، بحيث أصبح نصر الله بحكم تسلمه الأمانة العامة لحزب الله لسنوات تزيد عن ثلاثين عامًا، جزءًا من حياتنا وخبزنا اليومي، كنا ننتظر ظهوره، خصوصًا بعد حرب تموز عام 2006، وإن كانت الشاشة هي صلتنا الوحيدة به، إلا أننا كنا نشعر أنه يخاطبنا من منزلنا، لا تغادر البسمة محياه حتى في أحلك الظروف، ولا تخلو كلماته من النوادر والطرائف التي كانت تزرع البسمة على وجوهنا، فقد سمعته مرة يقول “لا أستطيع إلا أن أنكت”.
عندما يخطب كنا نصدقه، ونتأثر به، حتى المستوطنون في الكيان الإسرائيلي كانوا يصدقونه ويكذبون قادتهم، كان مقنعًا، وقادرًا على إصلاح أي خطأ، بحكم محبة الناس له، كان يحوِّل ما نعتبره هزائم إلى نصر، ونستمع إلى تفسيره وقراءته للمشهد السياسي، ولا يغيب عن بالي مقولته الشهيرة “ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات”.
بلا شك مع رحيل نصر الله، ينطوي جزء من تاريخ المنطقة، وحقبة جديدة ستبدأ فصولها، وبالأخص مع حزب الله، فغياب نصر الله لن يكون سهلًا على صعد كثيرة، والسؤال المطروح كيف سيستمر حزب الله بعد غيابه وكيف سيواجه التحديات الداخلية والخارجية، وهو الذي تغيب عنه شخصية مؤثرة جدًا ملكت نواصي الكلام، وقلوب المحبين، ومتمرس بالتعامل مع الأوضاع الداخلية والخارجية.
أؤمن بقدرة المقاومة، على الاستمرار، فهي لا تتوقف على شخصية قائد، لكن غياب القادة مؤثر، والاحتلال لم يوسع عدوانه على لبنان إلا بعد اغتياله نصر الله، لما له من تأثير، هي خسارة فادحة، ودفع ثمنها حزب الله، وذاق مراراتها من أحبه، لكن التاريخ سيذكر أن حزب الله قاتل وحده إلى جانب غزة، وقدم أغلى ما يملك، من دم قادته، وأبنائه، في زمن الإحباط العربي.