سقطت المحكمة ما لم تنقذ نفسها برفض بيان الادعاء
ناصر قنديل
سأبدأ في شأن أعرفه أكثر من أي أحد آخر، وهو أنني أُعلنت في 30 آب 2005 مشتبهاً به في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عبر مؤتمر صحافي احتفالي لكل من رئيس الحكومة فؤاد السنيورة المؤتمن نظرياً على تطبيق القانون في لبنان، ورئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس ممثل التطبيق الدولي لقواعد قانونية في التحقيق الجنائي، يفترض أن لبنان يحتاج إلى تعلمها والتدرّب عليها، فيما الإعلان مخالفة لأبسط قواعد القانون في جمهوريات الموز، لأن اللجنة لم تسعَ للقائي من قبل، ولا وجهت لي أي دعوة وتهرّبت منها، وإعلان الشخص مشتبهاً به دون تحقيق، ودون دفاع جريمة موصوفة، أما مداهمة منزلي بصورة استخبارية لمن كانوا يعلمون سلفاً وجودي في دمشق، ووقتوا المداهمة والإعلان على ساعة موضوعها دفعي للبقاء في دمشق، ضمن سيناريو شهود الزور وحجارة الدومينو، كي أبقى هناك خوفاً، وتتم ملاحقة سورية بتهمة إيواء مطلوبين للعدالة، فهي عملية مشينة بحق التحقيق وادعاء البحث عن الحقيقة، وربما كانت مقاربة الموضوع اليوم جانبية من باب التساؤل عن كيفية تبرير المحكمة لصدقيتها بالتوازي مع تجاهلها للعبة شهود الزور والتلاعب بالكرامات وتوزيع الاتهامات، من دون إنهاء قانوني لهذا الملف ووضعه تحت الضوء من زاوية التساؤل: لماذا قد يلجأ أي كان للتلاعب بالتحقيق ويوظف شهود زور لدعم اتهامات لا أساس لها ما لم يكن صاحب مصلحة في تغطية المجرم الحقيقي، ليبدأ الادعاء العام تحقيقه من هذه القرينة، التي تجاهلها كلياً، ولم تسائله هيئة المحكمة عن سبب التجاهل، من ضمن الفرضيات والاحتمالات التي يفترض أن يستعرضها، ويفككها ليرجح منها الأقوى والأشد تماسكاً.
كان يمكن أن تكون العودة لهذه النقطة في سياق مناقشة نص الادعاء العام، خصوصاً أن قراري بالعودة الفورية إلى بيروت متحدياً اللجنة ومحققيها، مطالباً بإظهار أي سبب أو مبرر أو مستند لما أعلنه رئيسهم ومعه رئيس حكومتنا، قد أسقط اللعبة والمؤامرة الكبرى وقلب الاتجاه بما لم يكن في حساباتهم، لكن الادعاء العام يواصل ما فعله أسلافه في لجنة التحقيق، بما يتعدّى حمايتهم من المساءلة، والتغطية على ارتكاباتهم، والتغاضي عن أسرار لعبتهم القذرة التي تسببت ببقاء أربعة من كبار ضباط الأمن والقوات المسلحة قيد الاحتجاز الظالم لسنوات. وهي لعبة لا بد أن تكون على صلة بعملية الاغتيال، أو على الأقل يفترض أن يشكل فضحها وكشف أسرارها القرينة الأولى التي يمكن أن توصل للمدبّر والمخطط والمنفذ، في قضية شهود الزور، كطريق يمكن أن يوصل إلى المخطط والمدبر والمنفذ في قضية الاغتيال نفسها، لكن الادعاء العام لم يترك المجال لندع سقطته هذه إلى حيث هي واحدة من عناصر تقريره الهش والمفكك والمسيّس، فتورّط في ذكر اسمي مرتين جديدتين، في إيراد ما وصفه بالمعلومة المتيقّنة، حول السياق السياسي لعملية الاغتيال، مرة مكتوبة في تقريره، يزعم فيها أن اللقاء الذي جمعني بالرئيس رفيق الحريري في الرابع من شباط 2005 قبل عشرة أيام من اغتياله كان مخصصاً لإبلاغي من الرئيس الحريري بأنه لن يضمني إلى لائحته في الانتخابات النيابية، والثانية في سرد شفهي تحدّث خلاله عن السياق السياسي لابتعاد الرئيس الحريري عن نية التفاهم مع سورية وحلفائها، رغم وجود من كانوا يحاولون التأثير على الحريري باتجاه معاكس، مورداً اسمي مرة ثانية.
أبسط التعليقات على ما ورد هو ما سبق وقلته للجنة التحقيق الدولية يوم مثلت أمامها في 30 آب و8 أيلول 2005 تباعاً، بطلبي وبعد عودتي من دمشق، عندما قال المحققون إن لديهم تقريراً لمصدر موثوق من قبلهم هو شاهد الزور زهير الصديق يقول إنه رأى في مركز أمني سوري في دمشق تقريراً لحزب البعث يرجّح أنه موقّع مني شخصياً ويدعو للتخلص من الرئيس الحريري، حيث علقت بأن معلوماتهم تشبه معلومات من ادعى أنه رجل دين، وقال جواباً على سؤال حول أجمل ما يعرفه عن الإمامين الحسن والحسين، «الخسن والخسين بنات معاوية ولدتا في إسطمبول»، طالباً تدوين ذلك كردّ على سؤالهم. وهذه المرّة أكرر أن ما ورد في تقرير الادعاء هو معرفة بالوقائع تشبه معرفة هذا المدعي عن الحسن والحسين بقوله «الخسن والخسين بنات معاوية ولدتا في إسطمبول «.
من المفيد القول إنني فرح بذكر اللقاء الذي جمعني بالرئيس الحريري في 4 شباط 2005 رغم مطالبتي للجنة التحقيق الدولية، بالتحقيق في ما قلته عن وقائع هذا اللقاء الذي جاء بطلب من الرئيس الحريري للقائي بواسطة نائب زميل، هو الدكتور عاطف مجدلاني، وبحضور جزء من اللقاء للواء وسام الحسن، الذي كان لا يزال حياً يوم مثلت أمام لجنة التحقيق، طالباً سؤالهما عما يعرفان عن سياق هذا اللقاء، وهما كانا يعرفان على الأقل، أن الرئيس الحريري كان يريد مصالحتي بعد عتبي على ذكره اسمي بين من أسماهم نواب ودائع سورية، وهو يعلم أن تسميتي جاءت بتوافق بينه وبين الرئيس نبيه بري مقابل تسمية شقيقته النائب بهية الحريري على لائحة الرئيس بري في الجنوب، وهو ما سبق وصارحت به الزميلين فيصل سلمان ومحمد شقير، اللذين طلبت سؤالهما أيضاً، عن جوابي بأنني لن أزور الرئيس الحريري دون اعتذار عن هذه الإساءة. ويعرف الدكتور مجدلاني من كان المبادر للقاء وفي أي سياق طلب منه الرئيس الحريري الاتصال، لأنني يومها كنت أرسلت معه للرئيس الحريري، من قبيل الملاطفة، نصاً ألقيته في محاضرة في طرابلس، أقول فيه إنه على ضوء حسن تصرف شيعة العراق وسنة لبنان سيتوقف مصير المقاومة والمنطقة، لأن المشروع الأميركي يريد إغراءهم بمغانم الحكم لاستخدامهم في ضرب روح المقاومة. وكان الاتصال ليقول لي الرئيس الحريري لقد قرأت وجوابي أن هذا لن يحدث، ثم يضيف أن هناك ما يستدعي أن نلتقي وأنه يتفهّم عتبي مضيفاً أنه لم يقصدني بكلامه عن النواب الذين أسماهم بالودائع ويكن لي التقدير والاحترام، فكان موعدنا في اليوم التالي.
في اللقاء حقائق قلتها للجنة التحقيق الدولية، وطلبت الاستماع للواء وسام الحسن حول الشق الذي كان حاضراً فيه، وهو شق طلب خلاله الرئيس الحريري أن يدخل اللواء الحسن، ليسأله أن يروي لي وقائع لقائه عام 2000 بالنائب فارس سعيد، وروى الحسن حكاية التنافر بين الرئيس الحريري وقرنة شهوان، العنوان المسيحي لمعارضة سورية ودورها آنذاك. وهي المعارضة التي أراد الادعاء العام إقناعنا أن الحريري كان في طريقه لقيادتها نحو تحالف انتخابي موجه ضد سورية، معتبراً هذا سياقاً سياسياً لعملية الاغتيال. وتحدّث وسام الحسن راوياً أنه على باب المصعد دار حوار بين الحريري وسعيد مضمونه سؤال الحريري عن كيف لعشر سنوات أن تصنع هذا الحقد على سورية، وجواب سعيد عن أن للحقد عمر ألف وأربعمئة سنة، ليعلق الرئيس الحريري بحضور الحسن، «إن الذين يقفون بوجه سورية اليوم ويدعوننا للتحالف معهم حاقدون على تاريخ 1400 عام هو تاريخ المسلمين وليس تاريخ نظام معين في سورية، وليس رفيق الحريري من يضع يده بأيديهم». وهذا مدوّن في تحقيقات لجنة التحقيق الدولية لكن المطلوب تجاهله، وهو يؤكد حقيقتين على الأقل، الأولى أن الرئيس الحريري كان مهتماً بتبديد أي انطباع حول نيته قيادة التحالف بوجه سورية، الذي يزعم الادعاء العام أنه كان قرار الرئيس الحريري، والثانية أن اللقاء كان ودياً وسياسياً وليس انتخابياً على الإطلاق، وبالمناسبة كان هذا شرطي المسبق للقاء.
في اللقاء، وهذا ما قلته للجنة التحقيق الدولية وتجاهلته عمداً، وقد طلبت منها أن تضع يدها على التسجيلات الموجودة في بيت الرئيس الحريري كما قيل يومها، والاستماع إلى هذا اللقاء الذي كان محوره رغبة الرئيس الحريري بمعرفة كيفية مناهضتي لقانون انتخابي على أساس القضاء كدائرة انتخابية من جهة، وكون معلوماته أن هذا القانون هو مشروع يلقى دعم الرئيس بشار الأسد، وأنا على صلة قريبة من سورية، وكان جوابي أنه ببساطة هذا لأن مشروع القضاء ليس مشروع الرئيس الأسد الواقف على الحياد بين قسمين من حلفائه، الرئيس إميل لحود والوزير سليمان فرنجية مع القضاء، والرئيس نبيه بري وسماحة السيد حسن نصرالله ضد القضاء، وكانت خلاصة الحريري آنذاك التساؤل حول وجود فرصة لترميم العلاقة بسورية، واستعادة صيغة حلفاء سورية، والتفاهم على مشروع موحّد لقانون الانتخاب، وأجبت بالإيجاب، واتفقنا على صيغ تواصل ومواقف، لاقت ارتياح سورية وحلفائها، كان أبرزها كلامه العلني ضد القرار 1559، بقوله «الطائف يوحّدنا والـ 1559 يقسمنا».
السؤال البسيط هو من أين جاءت المعلومة عما قال لي الرئيس الحريري في هذا اللقاء الذي قال الادعاء العام أنه كان مخصصاً لإبلاغي أنه لن يضعني على لوائحه، والسؤال هل كان مضطراً للقاء لهذه الغاية، وقد سبق وقال علناً ذلك قبل شهر، وهل هذا اللقاء يستدعي ساعتين للإبلاغ، وهل اللقاء بطلب مني لأكون على لائحته فارتضى وأبلغني رفضه، أم هو بطلب منه وشرطي للقبول كان عدم البحث بالشأن الانتخابي الخاص لسلامة صداقتنا وبحثنا السياسي، ولماذا أعقب اللقاء كلامه عن القرار 1559 والطائف، ولماذا استدعى وسام الحسن ليخبرني نظرته لقرنة شهوان، وأشياء أخرى كثيرة في هذا اللقاء تفسّر السياق السياسي للاغتيال، لجهة قطع الطريق على تعاون الرئيس الحريري مع سورية وحزب الله والحلفاء.
سؤال أخير، في تقرير رئيس بعثة تقصي الحقائق بيتر فيتزجيرالد، فرضيتان سياسيتان، واحدة تقول بأن الاغتيال لمنع تشكيل معارضة لسورية وانتقام من دور مفترض للحريري في القرار 1559، والثانية تقول إن الاغتيال يهدف لملاحقة سورية والمقاومة بدماء الحريري وتحويله خارطة طريق لتطبيق القرار 1559، فكيف يمكن لمحكمة نزيهة أن تقبل من الادعاء العام عدم بذل أي جهد لفحص تفصيلي للفرضيتين قبل تبني إحداهما؟
إن الخفة والهشاشة واللعب السياسي لا يحتاجان إلى دلائل في نص الادعاء القائم على عناصر توصف كلها قانونياً بأنها بلا قيمة كدلائل للاتهام، ومقابلها سياقات وفرضيات وجيهة تبدأ من السياق السياسي وتنتهي بشهود الزور، والتشويش الإسرائيلي على شبكة الاتصالات الذي بقي في تقرير اللجنة من قبل مجهول، كما بقي مَن اشترى سيارة الميتسوبيشي مجهولاً، ومصير أحمد أبو عدس مجهولاً، والانتحاري مجهولا، وحتى إثبات نسبة الكثير من الخطوط الهاتفية المؤسسة للادعاء، لمن نسبت إليهم معاكساً لإفادات الشهود، ولا معلوم سلفاً بلا تحقيق ولا محكمة إلا أن قادة في حزب الله قتلوا الحريري!
إذا أرادت المحكمة إنقاذ سمعة القضاء الدولي ليس أمامها إلا رد الادعاء، على الأقل لعدم وجود أدلة، وليس لعدم كفايتها فقط.
الادعاء العام يكرّر الحكاية، فيقول «الخسن والخسين بنات معاوية ولدتا في إسطمبول».