انتفاضة على الرجعيات العربية  والبنك الدولي وأدواته 

مٌرَصّدِ طُِه الُإٌخبّارَيَ

د. رائد المصري

بهدوء… فربّما صنعت الورطة السعوديّة المتمثّلة في قتل الصحافيّ السعوديّ جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول تحوّلاً كبيراً، لا بل انهياراً شاملاً لاستراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر ومعهما رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، وبعدما ثبت تورّط وضلوع محمد بن سلمان في هذه الجريمة المروّعة التي لم تعد تنفع معها الإدانات والشّجب والاستنكار، بل تحوّلت الى تبدّل في مزاج الشعوب أولاً على المستوى العربي وما يواجه السعودية وإبن سلمان من اعتراضات واستنكارات لزياراته لبعض العواصم بغية ترميم صورته الدامية، وثانياً توسّع دائرة التظاهرات والتذمّر الذي تقوده الحركات النقابية والأحزاب السياسية ببعديها القومي والاجتماعي على سياسات البنك الدولي الناهبة ثروات الشعوب والموسّعة للهوّة بين الطبقات الاجتماعية، حيث بدأت تطلّ برأسها في العاصمة الفرنسية باريس وبدأها كذلك التونسيون عبر الشعارات التي رفعوها، ممّا بات ينبئ بتشكيل جبهة اعتراضات وسلسلة من حلقات متّصلة يصعب فكّها بعد اليوم، لكونها اكتسبت الخبرة وإحكام النّقلة بالحنكة وبالضغط على الحكومات ونخبها السياسية الآتية من المدارس الليبرالية المعولمة، والمتتلمذين في معاهد صندوق النقد والبنك الدوليين، حيث كان الرئيس الفرنسي ماكرون أحد أهمّ إفرازات هذه المعاهد المالية التي تجيد الالتفاف والتسويف في مطالب الشّعب المنهك والمثقل بالضرائب التي تقتطع من جيوب الفقراء ومتوسّطي الحال لتذهب سداداً للدين العام وبيع المؤسسات العامة…

إنه وصول ترامب الى البيت الأبيض ومعه تفجّرت كلّ الكوابت الكامنة في بواطن الطبقات الشعبية الغربية والعربية، فليس أدلّ على ذلك سوى وقاحته في الدفاع عن محمد بن سلمان رغم اعتراض الكونغرس ومؤسّسات الدولة الأميركية العميقة، ليعطي الأولوية لصفقاته واستثماراته المالية والرّبحية التي عقدها هو وصهره كوشنر ومحمد بن زايد بعيداً عن أيّة رؤية استراتيجية تنحكم للمصالح الأميركية العليا، فيعتبر ترامب أنّ سقوط إبن سلمان يعني سقوطه هو وكوشنر ومحمد بن زايد ومحمد دحلان صاحب الأدوار والسّمسرات القذرة، وكذلك سقوط جورج نادر مستشار مدير شركة «بلاك ووتر»، وهو ما يعني العودة الى نقطة البداية من تحقيقات مولر ومستقبل الرئيس ما إذا كان سيكمل ولايته أو التجديد في الولاية المقبلة عام 2020… وكلّها أبواب موصدة تؤدّي الى التهلكة عند فتح أي باب منها…

صار الشكّ أكبر في إمكانية حضور محمد بن سلمان قمّة العشرين في الأرجنتين، لكون التحليل والعمل على المستوى الدولي والحقوقي يجري بشكلٍ صريح من أجل توقيفه لأنّه لا يملك الحصانة، رافقه في ذلك حجم الاعتراضات في العواصم العربية لزيارة إبن سلمان لها ومنها تونس والجزائر وموريتانيا تنديداً بمسؤوليته عن جريمة الخاشقجي ولكونه شكّل رأس الحربة في الهجمة الصهيونية ومشروع صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية وتهويد القدس وتدنيس المقدسات، وتوسيع حملة التّطبيع مع الصهاينة وزيارات قام ويقوم بها زعماء صهاينة لعواصم خليجية بموافقته ومن تحت عباءته، هذا الامتعاض الشّعبي العربي لشخصية أريد لها وبدعم صهيوني أميركي استعماري أن تتزعّم العالم العربي والإسلامي وتقوده لإلغاء وتصفية مشروع المقاومات في المنطقة، ومنها فلسطين، وحصار إيران لإسقاطها عبر حلف الناتو العربي الصهيوني الأميركي والذي فرط عقده قبل أن يبدأ في الخدمة الفعلية وجرف معه معادلات وبنود ومواد صفقة القرن الى نهاية بائسة…

رسائل الاحتجاجات الشعبية في العواصم العربية المعترضة على إبن سلمان وعلى زياراته التي رأت فيها الجماهير محاولات كاذبة لتلميع صورته المقزّزة، هي رسائل اعتراضية أولاً على سياسات حكّام الخليج التطبيعية، وثانياً على الأساليب القمعية والتوحّش في ممارسة الحكم، وثالثاً على التواطؤ مع المشروع الأميركي الاستعماري لضرب وتقويض الدول وتفتيتها، ورابعاً اعتراض على ضرب شرعيات الحكم في البلدان العربية عبر أدوات الإرهاب والتكفير، وخامساً لضرورة الكفّ والعبث بمقدرات وأموال الأمّة التي ضيّعها ملوك وأمراء الخليج في البنوك الغربية والأميركية وسمحوا وسهّلوا للبنك الدولي وضع يده على ثروات ومقدّرات الشعوب عبر أزلامهم من الرؤساء المأمورين والتابعين وكان خير مثال على ذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي…

إنّها الحاجة لبناء مشروع سياسي واقتصادي عالمي بعد توسّع دائرة جبهات الاعتراض على سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، حيث تزامنت التظاهرات في باريس مع التظاهرات في تونس برفع الشعارات نفسها المندّدة بالحكّام الآتين من مدارسهم الاقتصادية القائمة على إفراغ اقتصاديات هذه الدول من أي محتوى، وتحويله اقتصاد المضاربات المالية والبورصات وتحميل الطبقات الشعبية مسؤولية الفشل في هذه الرهانات وتثقيله بالضرائب والعجوزات وهو ما زاد من النّقمة الشعبية، لأنّ هذه الطبقات السياسية تطرح وعوداً انتخابية وتمارس عكسها لدى وصولها إلى السلطة، لأنهم يشكّلون جيوشاً من الموظّفين برتبٍ عالية كرؤساء دول ورؤساء حكومات، وليس أدلّ على ذلك من رئيس حكومة لبنان الذي انهزم أمام سفير الدولة السورية في مناسبة عيد الاستقلال اللبناني كي لا يبادله السلام… فكيف له أن يتسلم زمام أمر البلاد والعباد وتحمّل المسؤوليات الوطنية الكبرى؟

أخيراً نقول إنها الانتفاضات الشّعبية العامة على هذه الرجعيات العربية بسياساتها الاقتصادية والمالية وتواطئها مع المستعمرين الغربيين ومع المشروع الصهيوني، وهم المتّهمون دوماً بتبديد ثروات وخيرات الأمة ليضعوها في جيب الأميركي: فبدّدوا 200 مليار دولار لتدمير سورية وفشلوا، وكلّفت حروبهم بالتكافل والتضامن مع الأميركي 3000 مليار دولار لتدمير العراق واحتلاله وفشلوا، وساهموا ويساهمون مع المستعمر الأميركي والصهيوني بحصار المقاومة في لبنان والتضييق عليها في غزة وأنفقوا مليار دولار بروباغاندا دعائية وفشلوا، وأعطوا ترامب أكثر من 500 مليار دولار لتثبيتهم على عروشهم المهزوزة، لكنهم فشلوا وتشوّهت صورتهم… إنها مأساة العرب أو بعض العرب أو بعض حكّام العرب الذين انتهت صلاحياتهم وبات وضعهم خارج الخدمة واجباً مقدساً…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى