ماذا يستفيد حكام الخليج من التطبيع؟
مٌرَصّدِ طُِه الُإٌخبّارَيَ
ناصر قنديل
بديهيتان لا حاجة للمناقشة فيهما في قضية التطبيع بين كيان الاحتلال وحكام الخليج، الأولى حجم الفوائد الإسرائيلية المحققة من هذا التطبيع، بما يتيحه من عائدات اقتصادية ستسعى «إسرائيل» لنيلها كاملة من مشاريع النفط والغاز على البحر المتوسط، إلى طرق برية تجعل مرفأ حيفا مورد البضائع الأوروبية الآتية إلى الخليج، والسعي للحصول على ما توفر من المال تحت شعار تقديم الخدمات الأمنية، والتقرّب العسكري من مياه الخليج قبالة إيران تحسباً لأي مواجهة مقبلة، واستعمال بنوك المعلومات التي تمتلكها أجهزة مخابرات الخليج عن المقيمين العرب لديها وخصوصاً اللبنانيين والفلسطينيين، وفوق كل هذا توظيف هذا التطبيع لشرعنة احتلال الأرض الفلسطينية، وتقديمه كحجة على قوة «إسرائيل» بعيون مستوطنيها الذين باتوا لا يثقون بما تقوله قياداتهم عن هذه القوة، وتقديم برهان مؤثر لإقناعهم بأن لا مبرر للقلق الوجودي على مستقبل الكيان، وتوظيف كل ذلك في الحرب النفسية والإعلامية التي تخوضها قيادة الكيان بعد الإصابات البالغة التي لحقت بصورتها في الداخل والخارج في ضوء تراجع قدرتها على الردع وفشلها في الحرب على سورية. أما البديهية الثانية التي لا حاجة لمناقشتها فهي أن حكام الخليج مدركون حجم الأضرار التي تُصيب القضية الفلسطينية من التطبيع مع كيان الاحتلال، ومدركون لكونهم يقدّمون خدمة تاريخية لكيان الاحتلال، لكنها لاأخلاقية ومنافية لكل المعايير الوطنية والقومية والدينية، وبالتالي لا جدوى من مناقشتهم بخلفية السعي لكشف المخاطر المترتبة على إزالة حاجز التحريم للعلاقة مع المحتل ومنحه صك براءة على جرائمه المتمادية.
النقاش هنا ينطلق من منطق حكام الخليج ذاته، أي التسليم بأنهم ما عادوا يرون أنفسهم معنيين بالتمسك بالقضية الفلسطينية، هذا إن كانوا معنيين بها من قبل، وأن تناقضهم وعداءهم لإيران يشكل قضية أمن قومي كما يقولون، وأن مواجهة ما يسمّونه بالخطر الإيراني والنفوذ الإيراني، هو أولويتهم، وأن التطبيع مع كيان الاحتلال هو إحدى أدوات هذه المواجهة، على قاعدة السعي للتحالف مع الذين يشعرون بالخطر ذاته،مٌرَصّدِ طُِه الُإٌخبّارَيَ ويسعون للاستعداد لمواجهة العدو ذاته، واعتبار حشد الجهود بوجه إيران يستقيم بالتعاون الخليجي الإسرائيلي ويشكل قوة ردع لإيران، ويحقق نوعاً من التوازن الاستراتيجي في مواجهتها، عدا عن كونه يستقطب التشجيع والدعم الأميركيين، وبهما يصير الحشد قوة قادرة على تعديل موازين القوى، ويتحقق لحكام الخليج ما يتطلعون إليه من أمان واستقرار، فهل هذا صحيح؟
بداية لا بد من التذكير بما قاله المسؤولون الأميركيون في أكبر حروب خاضتها واشنطن خلال نصف قرن، فعندما قررت واشنطن تشكيل حلف عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وعندما قرّرت غزو العراق، وعندما قرّرت الحرب على سورية وشكلت مؤتمر أصدقاء سورية لهذا الغرض، وعندما قررت التموضع العسكري في سورية والعراق تحت شعار التحالف الدولي ضد داعش، طالبت «إسرائيل» بالصمت، ولم تقُم بضمّها إلى أي تحالف قامت بتشكيله، وفقاً لما فسّره القادة الأميركيون في كل مرة، بأن دخول «إسرائيل» على الخط سيضعف التحالف ويخلق له مشكلات في تحقيق أهدافه، لأن الرأي العام العربي والإسلامي سينقلب ضد الحرب، وبأحسن حال ستضعف حماسته للحرب التي تخوضها واشنطن عندما تكون «إسرائيل» شريكاً فيها، ويكشف التباطؤ والقلق في تظهير العلاقات الخليجية مع كيان الاحتلال، والحذر والتردّد في تبني إعلان القدس عاصمة له، بدون شريك فلسطيني يغطون به هذا الارتكاب، وهو أن الحال لا يزال هو نفسه بالنظر لأي شراكة تكون «إسرائيل» طرفاً فيها، رغم كل التعبئة العدائية لإيران وتقديمها كمصدر أول للخطر، وإلا ما الذي يمنع ولي العهد السعودي من الظهور في مؤتمر صحافي مشترك معاً يعلنان فيه طيّ صفحة القضية الفلسطينية وأولويتهما المشتركة بمواجهة إيران، وقد كان ما جرى في مؤتمر وارسو من هروب من الصورة، خير مثال على أن مكانة «إسرائيل» في نظر الشارعين العربي والإسلامي، بما فيه الخليجي، لا تزال في الجوهر هي نفسها، فبعض هذا ينقلب ضد الحرب التي تشارك فيها «إسرائيل»، وبعضه تضعف حماسته لها عندما تكون «إسرائيل» شريكاً، وإذا كان من تغيير فهو لا يتعدى كونه في نسب توزّع الرأي العام بين هاتين الشريحتين.
الأمر الأهم هو أن هذا التعاون مع «إسرائيل» تحت شعار المواجهة مع إيران، يربط مصير العلاقة الإيرانية الخليجية بقانون الصراع الذي يحكم ما بين إيران و»إسرائيل»، وهذا بقدر ما هو مكسب استراتيجي لـ«إسرائيل»، هو خسارة استراتيجية للدول الخليجية، فالإدراك البسيط للحسابات الاستراتيجية يقول إن الصراع بين إيران و»إسرائيل» هو صراع وجود، وأن كل محاولات التسويات مع إيران على قاعدة ما هو دون الاعتراف بوجود «إسرائيل»، أي بالانسحاب مع الصراع مع «إسرائيل» دون اعتراف بوجودها، وصلت إلى طريق مسدودة،مٌرَصّدِ طُِه الُإٌخبّارَيَ وأنه لو قبلت إيران بالحد الأدنى المطلوب منها، كمثل وقف دعم قوى المقاومة، لكانت إيران حصلت على أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، والدول الغربية، ولما عاد ملفها النووي مشكلة ولا برنامجها الصاروخي، ولا ما يسمّيه الغرب بالنفوذ الإقليمي لإيران، والغريب أن أحداً من حكام الخليج لم ينتبه أنه إذا سلمنا بأن الضغوط الأميركية على إيران، ومنها التطبيع الخليجي الإسرائيلي، ستؤدي لدفع إيران إلى التنازل طلباً لتسوية، فالتسوية الوحيدة الممكنة أميركياً هي التي تضمن خروج «إسرائيل» من دائرة الاستهداف الإيراني، أي الإقرار بوجود وشرعية كيان الاحتلال ولو على الأراضي المحتلة عام 1967، وبأحسن الأحوال وقف دعم إيران لحركات المقاومة. وهذا طلب مستحيل إيرانياً، ولو سلمنا بأن إضعاف إيران سيرتّب تغييراً في موقف إيران ويدفع باتجاه التسوية الأميركية الإيرانية، فالذي سيصير ممكناً وفقاً للرهانات الأميركية هو تسوية تقدم فيها واشنطن لطهران سلة محفزات منها العودة لدور شرطي الخليج وإلحاق أمن الخليج بها وتوسيع نفوذها فيه، مقابل ما ستحصل عليه واشنطن من طهران لأمن «إسرائيل». وهذا يجب أن يفسر، لمن ينتبه من الذين يفكرون بعقولهم في الخليج، سر الإصرار الأميركي على التطبيع الخليجي الإسرائيلي.
الفرضية الثانية الموازية للمواجهة مع إيران هذه الحرب. وهنا يبدو شديد الوضوح أن قانون الحرب حتمي في منطق مستقبل المواجهة مع «إسرائيل»، بينما قانون التسوية هو الحتمي في النظرة الإيرانية للعلاقة بدول الخليج، فيصير السؤال الطبيعي لماذا تربط حكومات الخليج مستقبل علاقتها بإيران، بمستقبل المواجهة الإيرانية مع «إسرائيل»، وهي مواجهة سيكون سقفها الحرب طالما ليس للتسوية أفق مفتوح. فماذا عندما تندلع الحرب، التي تخوضها إيران جزافاً، ولا عشوائياً، بل عندما تتوافر الظروف والمعطيات المناسبة، وهي حرب لن تجرؤ «إسرائيل» على الذهاب إليها ولو وقف معها حكام الخليج وأميركا وكل الغرب، لأنها ستقرب ساعة زوال الكيان. ماذا سيحدث للخليج عندما تندلع حرب قرّر حكام الخليج توريط بلدانهم بتحويلها ساحة من ساحاتها، وميداناً لتساقط الصواريخ الإيرانية فتحرق النفط والغاز، وتدمّر المنشآت، وتضرب الاستقرار؟ وماذا سيكون مصير دبي وما تتباهى به من إنجاز، ومستقبل خطط ولي العهد السعودي للعام 2030؟ وماذا سيكون الحال عندما تكون لـ«إسرائيل» قواعد عسكرية ومخابراتية في دول الخليج؟ وأمام هذه الحرب فرضيتان فقط، باعتبار فرضية سقوط إيران مستحيلة: الفرضية الأولى هي بدء العد التنازلي لكيان الاحتلال، وعندها على حكام الخليج قبول معادلة أن مصيرهم قد ارتبط بمصير كيان الاحتلال. والفرضية الثانية هي تسوية توقف الحرب، وهي تسوية ستفتح باب مقايضة إيران بقبول وقف الحرب بما يضمن معادلات المقاومة داخل فلسطين، مقابل تعزيز وضعها الإقليمي، وهو ما ستسدده واشنطن من حساب حكومات الخليج مالياً وسياسياً.
يرتكب حكام الخليج حماقة عمرهم بربط مصير الصراع بينهم وبين إيران. وهو صراع مفتوح على التسويات البسيطة والواقعية، بصراع إيران مع «إسرائيل». وهو صراع وجودي لا أفق ينتظره من الزاوية الإيرانية إلا زوال كيان الاحتلال.